الثلاثاء، ٢ يناير ٢٠٠٧

ص 17 الأعسر ـ قصة قصيرة ل محمود البدوى

الأعسر
قصة محمود البدوى


تحركت السيارة بعد ليلة ممطرة لم يحدث مثلها فى الصعيد .. على طول خط السيارات .. من الجيزة إلى منفلوط .. وسقط المطر بغزارة .. وسبب الوحل ، مثل رغو الصابون ..

ولكن السائق لم يعبأ بهذا كله .. وانطلق فى سرعة الريح على الأرض اللينة ..

وكان الركاب الأربعة صامتين ولكن ثلاثة منهم كانوا يتبادلون السجائر بشراهة .. السيجارة تشتعل من عقب السيجارة .. وكان يبدو على وجوههم الغضب والتوتر ..

وكان هؤلاء الثلاثة مسلحين .. فى أيديهم البنادق أمسكوابها وشرعوها كأنها مرخصة .. وفى اللحظات التى كانت السيارة تعبر فيها نقط المرور وتهدىء من سرعتها قليلا تظل البنادق فى أيديهم ..

كانوا قتلة .. ومنذ ساعات قليلة .. ارتكبوا جريمة القتل .. مع الريح العاصفة .. واستقلوا بعدها السيارة متجهين إلى العاصمة ..

وفى الطريق .. بعد مشارف " المنيا " ركب الرابع .. ولم يكن القتلة يريدونه منهم ولكن نظرة صارمة من السائق الجمتهم .. وأجلسه السائق بجانبه .. ولم يكن هذا الراكب يدخن .. ولكنه رضى بجو التدخين يملأ جوف العربة ..

ونظر إلى وجوههم مرة واحدة بعد أن ركب .. ثم استقام بجذعه على الطريق .. وكان بصره يتجه إلى الأمام .. إلى حيث الجهامة المطبقة على الجانبين .. وإلى أنوار السيارات المضادة التى تلمع على الأرض المبلولة ..

كان السائق يحرك عجلة القيادة بذراع واحدة .. مرة بالذراع اليمنى وأخرى باليسرى .. ويميل بكتفه مع كل ذراع .. كان قوى العضـل مفتول الساعد .. فى الثلاثين من عمره .. أسمر خفيف الشارب .. واسع العينين .. أخضرهما فى لمعان وحدة بصر ..

وكان راديو السيارة هو شاغله الشاغل .. فأخذ يغير ويبدل فى المحطات .. ثم ما عتم أن أغلقها جميعا .. وشغل التسجيل ..

وكان صوت السيارات يزعق .. ولكنه يذهب سدى فى دوى ريح الشتاء ..

وقلت سيارات الأجرة على الطريق .. ولم يعد يشاهد إلا اللوريات الكبيرة محملة بأكياس الغلال ، والأسمنت ، وألواح الخشب ، والصناديق الكبيرة ، وأسياخ الحديد .. وعلى ظهورها ينام العتالون مسترخين لايعبأون بشىء مما يجرى بين مطر وريح ..

وكان الثـلاثة الذين احتلوا المقعد الخلفى فى أغلب حالاتهم صامتين .. ويتبادلون كلمات قليلة من حين إلى حين ..

والسائق قد أطفأ النور فى جوف العربة .. فأصبحت عيونهم تلمع ، ويزداد لمعانها كلما أشعلوا ولاعات السجائر ..

وكانوا يرتدون جلابيب سمراء ، ولبدا خضراء ، غطوها بملاحف صوفية داكنـة ، أداروها حول أعناقهم ، وتركوها تتدلى على صدورهم ..

وظهرت للعيان ساعة ذهبية تبرق فى الظلمة .. وكان صاحبها يجلس إلى يسار السيارة من وراء السائق وهو أصغر الثلاثة ..

وأوغلت السيارة فى الطريق .. وشعر الراكب الرابع بالخوف .. والخوف الشديد .. ولعن الظروف التى جعلته يسافر فى الليل .. كان خوفه من الركاب معه .. أضعاف خوفه من مخاطر الطريق ..

وكان كلما نظر إلى السائق المطمئن الواثق من نفسه وعمله .. شعر ببعض الاطمئنان .. ثم ما يلبث أن يعاوده الخوف من جديد . وخلال ساعة كاملة شعر برهبة الظلام وشدة البرد والرعب من المكان .. ثم استسلم وظل صامتا .. ولم يتبادل مع الركاب الثلاثة كلمة واحدة ..

وتقدم له أحدهم بسيجارة وهو يوزع السجائر على رفيقيه فقال له شاكرا :
ـ اننى لا أدخن ..
ـ أبدا ..!
ـ أبدا .. لم أضع سيجارة فى فمى ..
فنظروا إليه فى عجب .. وأخذوا ينفثون دخانهم ..
وبعد مدينة " بنى سويف " وقف السائق عند قهوة صغيرة ، كانت لاتزال ساهرة .. وبجانبها من يشوى اللحم على النار ..

وركن السائق العربة ليستريح ويأكل .. وكانت السماء معتمة كابية النجوم ، والبرودة شديدة .. ومصابيح بعيدة تعكس أضواءها على الترعة ..

ونزل الراكب الرابع غير المسلح مع السائق .. وفى عزمه أن يعفى السائق من ثمن طعامه .. وجلس إلى طاولة منفردة بعيدة عن مسقط الريح .. وطفقا يأكلان ..

وكان الثلاثة المسلحون ، قد ترددوا بعض الوقت فى النزول من العربة .. ثم لما بصروا بأكواب الشاى وشموا رائحة اللحم المشوى على النار ووجدوا المكان خاليا .. بارحوا العربة ودخلوا المقهى وجلسوا إلى مائدة فى الزاوية اليسرى ..

ووضعت أمامهم أرغفة كثيرة وطعام أكثر .. وشرعوا يأكلون بسرعة وشراهة ..
وسأل الراكب الرابع السائق ..
ـ أتعرفهم ..؟
ـ أبدا هذه أول مرة أرى فيها وجوههم ..
ـ ولماذا الأسلحة فى أيديهم دائما .. حتى وهم يجلسون للطعام ..؟
ـ لأنهم قتلة ..
ـ قتلة ..؟ !
ـ قتـلة .. ويقتلون أى إنسان .. متى دفعت لهم الأجر .. مجرمون .. أخس أنواع البشر ..
ـ قد يفكرون فى قتـلى .. لمجرد التصور .. أن حقدهم أسود مدمر ..
ـ لاتخف .. ولا تفكر فى هذا .. فأنت فى ضيافتى .. وأنا الذى أركبتك العربة لا هم .. وإذا مسوا شعرة من رأسك سأحشهم ..
ـ تحشهم ..! كيف ..؟ بيديك ..!!
ـ أجل بيدى هاتين .. ولا تضحك ..!
واستطرد السائق :
ـ انى أشتغل على هذه العربة فى الليل ..
ـ وهل من يعمل فى الليل والظلام يكون مخلوع القلب ..؟
ـ ان صاحب القلب المخلوع مشلول الحركة إلى أبد الآبدين .. لقد ركبت الكثير من أمثالهم وهم فى داخل عربتى أجبن من الكلاب .. وهناك دوما فى الحياة من هو أقوى من كل قوى .. تلك هى سنتها ..

وسر الراكب الرابع من كلام السائق وأحس بالاطمئنان التام لثقة السائق فى نفسه وقوة شخصيته ..

ودخل المقهى فى هذه الساعة شاب خفيف الوطء .. ربعه فى الرجال مالوحا .. قصير العنق ، حليق الذقن ، حاد النظرات .. وكان على كتفه الأيسر بندقية قصيرة جدا .. ودخل هادئا وحرك الطاولة التى سيجلس إليها .. ثم الكرسى وجعل ظهره للحائط وعينيه على الوجوه التى أمامه ..

وكانت الاضاءة فى القهوة خفيفة ، والنار مشتعلة فى الداخل ، وبدا وجهه الطويل الأسمر وعيناه تبرقان فى لفحة الضوء ، وحمل إليه الشاى فتناوله بيده اليسرى وأخرج محفظته بيده اليسرى كذلك ، فبدا من كل هذه الحركات أنه أعسر .. ولا يستعمل يمناه قط ..

وجلس يدخن فى هدوء وصمت .. ثم سأل وفى صوته الوداعة :
ـ من الأخ صاحب العربة الواقفة هناك ..؟
فرد السائق :
ـ أنا ..
ـ أتسمح وتأخذنى معك لغاية الجيزة ..
فرد أحد المسلحين بخشونة ظاهرة قبل أن يجيب السائق :
ـ العربة مشغولة .. ولايوجد مكان ..
ـ اننى أكلم السائق .. ولم أكلمك ..
وهنا رد السائق مخاطب الأعسر ..
ـ مرحبا بك .. عندى مكان ..
ـ العربة مشغولة يا أسطى .. ولن يركبها راكب جديد ..
ـ العربة عربتى .. وهناك مكان شاغر للسيد ..
ـ قلت لايوجد مكان .. وهيا لنسافر ..
ورد السائق بهدوء :
ـ اننى أريح المحرك .. وأمامنا ربع ساعة أخرى ..
وقال المسلح بغيظ :
ـ قلت هيا .. فهيا ..

وحرك المسلح بندقيته ، وأطلق طلقة بين رجلى السائق للارهاب .. وظل السائق فى مجلسه ساكن الطير رابط الجأش .. وهنا تدخل الأعسر وتقدم نحو المسلح الذى أطلق النار .. وقال له بتؤدة :
ـ الأمور لاتعالج هكذا أيها الأخ ..
ـ كيف ..؟
ـ سمعته يقول لك أنه يريح الموتور .. ثم ان من يطلق النار على رجل أعزل جبان ..
ـ تسميه أنت جبانا ..؟!
ـ بل ومن أحط وأخس أنواع الرجال .. إنى أعرف أن الليلة ستكون سوداء ..

وخيم الوجوم ولمعت العيون تنذر بالشر .. وتحرك المسلح ومعه رفيقاه إلى الخارج بظهورهم .. وراوغ الأعسر كأنه سيتبعهم ثم استدار فى سرعة خاطفة إلى جدار القهوة الخارجى .. وفى هذه اللحظة كانوا قد أطلقوا عليه النار ولكنهم أخطأوه .. فصوب عليهم رشاشه ببراعة عديمـة النظير .. وظل مشتبكا معهم وحده فى معركة رهيبة انتهت سريعا ..

وجعل كل خبرته كمقاتل ليس له ضريب .. أن يبعدهم عن القهوة حتى لا يصيبوا بريئا .. ونجح فى هذا ، وظل يطاردهم بعنف وضراوة إلى أن سكت صوت الرصاص وخيم السكون ..

وعندما لاح نور الفجر .. وجدوا الثلاثة فى صف واحد تحت جسر الترعة وقد مزق الرصاص أجسامهم ..

وكانت آثار الأعسر واضحة من أعقاب السجائر التى تركها بعد المعركة .. وخط سيره يدل على أنه أخذ سيارة .. بعد أن سار على قدميه ما يقرب من ربع فرسخ ..

=================================
نشرت القصة فى مجلة الثقافة بالعدد 71 فى أغسطس 1979 وأعيد نشرها فى مجموعة قصص لمحمود البدوى بعنوان " قصص من القرية " ـ مكتبة مصر
=================================

ليست هناك تعليقات: