الثلاثاء، ٢ يناير ٢٠٠٧

ص 8 السكين ـ قصة قصيرة ل محمود البدوى

السكين
قصة محمود البدوى

عاد زكى إلى مسقط رأسه بعد غيبة طويلة .. ووجد القرية كما تركها منذ أربعة عشر عاما .. بنخيلها .. وبيوتها السوداء .. وأشجار الجميز الضخمة على الترعة .. لم يتغير شىء من معالمها .. ولم يتطور ، ورأى شيئا واحدا جديدا بجانب السكة .. بناية بيضاء فى الأرض الفضاء الملاصقة للسوق .. ووجد الأطفال يلعبون فى ساحتها .. ولما سمعوا الجرس انطلقوا إلى الفصول ..

وسر زكى لمرآهم .. ونظافة ثيابهم .. وحدث نفسه بأنه جيل جديد ينمو فى الهواء الطلق والشمس .. وليس فى البرك والمستنقعات كما نما هو وشب ..

وشعر برجفة وهو يغوص بنعليه فى التراب .. ويقترب من بيت والده .. وطافت برأسه الذكريات .. حتى تندت عيناه .. وكانت زوجته فوزية تمشى بجواره صامتة .. وتسحب الطفلين وراءها .. وكان هو يحمل سلة وضعوا فيها ملابسهم وبعض أشياء اشتراها لجنازة أبيه .. سجائر وبن ..

ولاحظ وهو يمشى على جسر الترعة .. أنه قد خرج من المحطة ولم يعرفه أحد من الأهالى .. كان يرتدى بدلة سمراء قديمة .. ولكنه حرص على أن تبـدو نظيفة ، فلبس فوقها وهو فى القطار جلابية حتى لا تتسخ ..واشترى لزوجته فستانا جديدا أسود .. ولولديه جلبابين ليبدوا جميعا فى أحسن حال .. ولكن عينيه كانتا تخونانه .. وصفحة وجهه كانت تنطق بالتعاسه .. وتعبر عن مقدار ما يعانيه من الألم والجوع ..

***

ولما اقترب من البيت مسح عينيه .. وأدخل امرأته مع الطفلين من باب الحريم ثم تقدم إلى المضيفة .. ورأى ثلاثة أشخاص على بابها ينتظرون المعزين .. وبينهم أخوه عبد الرءوف .. فسلم عليهم ودخل ووجد الناس جالسين فى صفوف على الدكة والكراسى .. فجلس فى أول مكان صادفه .. وعرفه أخوه .. حسانين وكان قريبا من الباب ولكنه لم ينهض إليه ..

وبعد فترة قصيرة .. عرفه الجالسون عن قرب .. وبدأ الهمس فى الجنازة وتركزت عليه عيون أهل القرية .. وكان المقرىء يرتل القرآن فاكتفوا بتسديد نظراتهم نحوه .. فلما فرغ المقرىء من التلاوة .. نهض الشيخ سعفان مأذون القرية وخطيبها .. وجلس بجواره يواسيه فى مصابه .. ثم أقبل الشيخ رضوان وكيل العمدة وجلس عن يمينه وحوله بعض الفلاحين .. وبدا من نظرتهم جميعا أنهم أنكروه ، فقد فوجئوا برقة حاله وبساطة ملبسه .. على خلاف ما سمعوا عنه .. فقد قيل لهم أنه يدير عملا مربحا .. وأنه " حوش " الألوف .. فوجدوه أفقر منهم ..

وكانت عيونهم جميعا تود سؤاله ومعرفة أحواله ، ولذلك شعروا بالراحة عندما سأله الشيخ سعفان :
ـ فين .. دلوقت .. يا زكى أفندى ..؟
ـ فى إسكندرية ..
ـ إسكندرية واسعة .. فين يعنى ..
ـ فى كرموز ..‍‍

وارتعش فمه فضم شفتيه .. ولاحظوا اضطرابه فأسكتهم الشيخ رضوان بعينيه .. لم يسألوه شيئا آخر .. وقالوا له :
ـ ربنا يعينك ..
وقدم له الشيخ رضوان سيجارة .. فأشعلها ونكس رأسه .. ولاحظ زكى أن ضوء " الكلوب " يسقط على كم سترته الممزق .. فثناه ليخفى التمزيق .. ولكن الكم كان يعود إلى وضعه الطبيعى من أقل حركة وزاده هذا اضطرابا ..

وكان الأهالى من القرى المجاورة يعزون اخوته الثلاثة .. أما هو فلم يتقدم إليه أحد بتعزية لأنهم لم يعرفوه .. فلما عرفوه .. كانوا يتجاهلون وجوده ..

***

وحوالى الساعة التاسعة ليلا .. والبرد يسفح الوجوه .. شاهد زكى ابنه " بليغ " يقف على باب المضيفة حائرا .. يبحث فى الوجوه .. فلما استقر بصره على وجه أبيه قفز إليه .. وهمس :
ـ ماما .. عاوزاك ..
وكان يبدو على الغلام أنه ضرب حتى بكى ..
فاحتضنه زكى لحظة ..
وقال أحد الموجودين :
ـ ابنك دا يا زكى أفندى ..؟
ـ أيوه ..
ـ من الست ..
ـ أيوه ..

ونهض .. ليقطع الحديث .. ودخل على الحريم .. ووجد قريباته جالسات فى الصالة ، وكان هناك " فانوس " فى السقف .. يرسل الأضواء على وجوههن .. وبحث بينهم عن زوجته .. فوجدها هناك تجلس وحدها .. وعلى وجهها الحزن الأخرس .. وكان ابنها الصغير .. نائما بجوارها .. من غير غطاء ..

ووجد العيون جميعا ترمقه .. وسمع عمته نبوية تسأل :
ـ دا بسلامته .. زكى ..
ـ أيوه يا عمتى ..
ـ مالك .. كده .. اتغيرت .. وأنت لسه صغير .. ماتطلعش من دور ابنى عبد السلام ..
ـ كده .. الدنيا ..
ـ كده يا ابنى .. عذبت نفسك وعذبت " أبوك " .. مات وكبده مقطع منك ومن عمايلك .. وخليته حرمك من الميراث ..
ـ أنا مش عاوز حاجة من حد ..
ـ يا ابنى مسكين .. وباين عليك الجوع .. والعرى .. والست بترقص فينهى كباريه ..
ـ يا عمتى بلاش الكلام دا .. احنا جايين ليلة نحضر الجنازة .. ومن الفجر مسافرين ..

ونظر إلى زوجته المسكينة .. فوجد وجهها يتمزق من السياط التى تلهبه .. وأنبه ضميره لأنه السبب فى كل هذه الآلام .. فقد كانت ترفض أن تسافر معه ولكنه ألح عليها فى السفر لأنه كان يتصور أن أهله ينسون كل شىء بعد وفاة أبيه .. وليريهم أن زوجته امرأة ككل النساء .. وليست كما يتصورون .. ولكن ظنه خاب .. وأخطأ فى كل تقدير .. فالعزبة غير المدينة ..

وحدثته زوجته وهى باكية بضرورة السفر الليلة فعرفها أنه لاتوجد قطارات فى الليل تقف على هذه المحطة الصغيرة .. فحزنت ، وقضت الليلة فى مكانها .. منبوذة لايحادثها أحد .. وقدموا لها الطعام مع الخدم فرفضت أن تأكل ..

***

ونزل هو إلى المضيفة .. جلس فى بيت أبيه كالغريب .. جلس فى البيت الذى ترعرع فيه ، كأنه لاتربطه به صلة ، شعر بشىء يتمزق بداخله .. وأن السكين الحادة التى قطعت صلته بأبيه وأخوته .. قد وصلت إلى الأعماق .. وتساءل .. أتشعر بهذا ، وينظر الناس إليه هكذا .. لأنه حرم الميراث .. لأنه لاصلة مادية تربطه بالأسرة .. وهل هذا الشىء المادى هو الذى كان يربطه بأهله ، فلما أصبحت هذه الصلة غـير موجودة أصبح هو غير موجود فى نظرهم .. وعذبه التفكير ..
وأخذه الشيخ رضوان ليتعشى وينام فى بيته ..

***

وفى الصباح جلس الشيخ رضوان يشرب مع ضيفه الشاى وقال زكى وكأنه يحدث نفسه :
ـ فكرت .. وأنا فى القطار أن أعيش فى بيت أبى .. لأنه قد خلا واخوتى ، كل يعيش فى بيته الخاص .. وفكرت فى أن أزرع فدانين أو ثلاثة بالإيجار فإن الزراعة ليست غريبة علىَّ .. أنها مهنتى .. فكرت فى هـذا .. ولكن أخى عبد الرءوف قال لى أن بيتنا لا تعيش فيه الراقصات ..
ـ يجب أن تعرف طباع الناس فى الريف .. والقرية صغيرة ..
ـ ولكنها لم ترقص فى حياتها سوى ليلة واحدة .. الليلة التى شاهدتها فيها وفى اليوم التالى .. كانت فى بيتى .. وكانت زوجتى .. وهى امرأة شريفة ككل من تعرفهم من النساء .. ولقد أنقذتها من الدنس .. فهل أعاقب على هذا إلى الأبد ..
ـ ولماذا لم تنجح فى حياتك وأنت متعلم .. وغيرك من الجهلاء يتركون القرية إلى القاهرة والإسكندرية .. ويعودون بثروة ..
ـ لقد لازمنى سوء الحظ .. وكلما تقدمت لعمل .. أشاع الناس عنى أن والدى طردنى .. لأننى تزوجت راقصة .. وأننى فاسد .. فهل ينجح فى الحياة من يوصم بهذه الوصمة ..

هناك سكين حادة تقطع صلتى .. بالحياة والناس فتقطعت بى الأسباب وعشت ضائعا ..
ـ فى اعتقادى .. أنك ضعت .. لأنك كنت دائما تشعر بأنك أخطأت وارتكبت اثما .. وأنت عاص .. فانغمست السكين فى ظهرك وحملتها ودرت بها ولهذا لم تنتصب أبدا ..
ـ وماذا أعمل الآن ..؟ هل أميت الأطفال جوعا ..
ـ أخرج هذا السكين من ظهرك وإذا كنت تشعر بالوزر الآن لأنك تزوجت براقصة فطلقها .. وواجه الحياة والناس ولا تجعل شيئا يشدك إلى الأرض .. واترك هذه الحساسية الشديدة التى حطمت أعصابك ..

وابتسم زكى .. وأطرق .. ثم رفع رأسه على صوت الشيخ وهو يقول :
ـ والآن هيا لتأخذ " قطر تسعة " وسأذهب معكم إلى المحطة ..

وخرج زكى واسرته من القرية كما دخلوها .. دون أن يحس بهم أحد .. ورافقهم الشيخ رضوان إلى المحطة .. وقطع لهم التذاكر .. وقبل أن يدخل القطار .. وضع فى يد زكى حزمة من الأوراق ..
فسأله زكى فى استغراب :
ـ ما هذا ..؟
ـ هذا دين للمرحوم والدك عندى .. دين قديم .. وكنا نتعامل من غير سندات مكتوبة .. ولقد قررت بعد أن علمت حرمانك من الميراث .. أن أعطيه إياك وحدك .. لأنه حقك ..
ـ ولكنه مبلغ كبير ..
ـ ابدأ به الحياة ..
ـ أشعر الآن بأن السكين خرجت من ظهرى ..

وتناول يد الشيخ ليقبلها فجذبها هذا سريعا .. وصفر القطار ..

وعندما نظر زكى إلى طفليه وزوجتـه فى العربة .. وجدهم يبتسمون .. ولم يعرف سبب ابتسامهم .. فتقـدم إليهم مبتسما لأول مرة .. وبدت المزارع نضرة على الجانبين .. كل شىء باسم ..

====================================
نشرت القصة بصحيفة الشعب فى 4/1/1957 وأعيد نشرها فى مجموعة قصص لمحمود البدوى بعنوان " زوجة الصياد " و " قصص من القرية " ـ مكتبة مصر
====================================


ليست هناك تعليقات: