الثلاثاء، ٢ يناير ٢٠٠٧

ص 4 الطاحونة ـ قصة قصيرة ل محمود البدوى

الطاحونة
قصة محمود البدوى

زاد نشاطى وعملى فى الطاحونة بعد وفاة المرحوم ماهر ، فقد كنت أحب الرجل الذى وضع فى فمى لقمة العيش بعد الجوع والبطالة وأخلص لذكراه .. وأود أن تسير الحياة فى الطاحونة وخارجها كما كانت .. لأن أرملتـه نجيـة لاتستطيـع أن تفعل شيئا وحدها فى قرية " عامر " ولو جاءت برجل يعينها فسيأكل قوتها وقوت عيالها .. هذا ما قدرته ..

وكان المرحـوم ماهر قد اشترى هذه الطاحونة بعد عودته من بحرى .. عاد ومعه ألف جنيه .. ونجية .. وأشار عليه الناس الطيبون فى البلد بأن يشترى طاحونة عبد السميع .. وكانت متعطلة فاشتراها .. وأصلح الوابور وأدارها .. وجعلنى المحصل فيها وكاتب الحسابات بها لأنه لايعرف القراءة ..

وكانت الطاحونة بحجرين ولكنا كنا نكتفى باستعمال حجر واحد نطحن به الأذرة والقمح .. وأصبح الحجر الآخر شبه معطل ثم أصبح " يعاكس " عندما كنا نستعين به فى أيام الأعياد والمواسم .. وكانت هذه الطاحونة هى الوحيدة فى القرية وعملاؤها جميعا من النساء .. فمن هو الرجل فى القرية الذى يحمل مقطفا .. على رأسه ويذهب إلى وابور الطحين .. وكانت الطاحونة تدور على الأذرة .. فى معظم الأيام .. ولا يظهر القمح فى " القادوس " إلا فى الأعياد ..

وكان فى القرية ثلاثة بيوت غنية تأكل القمح طوال السنة .. ولكنها لم تكن تطحن عندنا .. كانت تطحن فى البندر .. لأن طحيننا " أسمر " وليس فى الوابور " منخل " ..

ولكن عندما وضعت القيود على المطاحن فى أيام الحرب الحالكة جاءوا إلينا .. وكنا نوقف طحن الأذرة .. لنطحن لهم القمح خالصا من كل خلط .. وكنت أسمع الفلاحات الواقفات فى الحوش .. يعلقن على هذا :
ـ استنى يا أختى .. للمغرب .. الوابور داير للذوات .. قمح .. ودقيق .. غريبة .. مين يفكر فى الفقرا.. يا حبيبتى مين ..
ـ هو دا وابور .. يسد بيت صحابه ..

وكانت تقول هذا شريفة كلما دخلت حوش الطاحونة .. وكانت طويلة مياسة وبيدها عصا من الجريد أطول منها ..

وكنت أسمع هذه الشتيمة مائة مرة حتى بعد أن مات ماهر وانسد البيت فعلا .. ولا أستطيع أن أتكلم .. لأننى اعتدت على هذه الشتائم ومثلها وأكثر منها .. ولم أكن أعرف لماذا يشتمن .. إذ أن شكواهن كانت عامة ولا تتناول شيئا بعينه ..

وكان عبد الموجود يرد على الشتائم ويعلو صوته على حجر الطاحونة ..

وفى هذه الدوامة وتحت ضجيج الآلات وزعيق النساء كنت أعمل وراء حاجز خشبى وأجلس إلى مكتب قديم .. وأقيد الايراد فى دفتر صغير يعلوه التراب والدقيق .. وكان الدقيق يعلو جلبابى ووجهى ..

وكان ماهر يعطينى .. خمسة جنيهات فى الشهر .. وكنت قانعا بهذا المرتب .. سعـيدا به .. لأننى أحسن من أخوتى الذين يعملون فى الحقول ..

وكان الوابور بجانب الجسر قريبا من " الموردة " .. كانت بنايته أول شىء يصادفك وأنت طالع من النيل .. ولهذا كان بعض الفلاحات من الجزر القريبة يحملن مقاطفهن ويجئن إلينا فى أيام السوق لأنهن يجدن اللنش فى هذا اليوم شغالا على خط واسع من منفلوط إلى أسيوط ..

وكنت أنا الذى سقط فى امتحان الابتدائية ثلاث مرات .. والذى ضرب معلم الحساب وفصل من جميع المدارس وضاع مستقبله .. أدير الطاحونة بعد أن مات صاحبها أحسن ادارة .. وأقوم بعمل ثلاثة رجال وعندما كنا نسهر كنت أريح أسطى الماكينة وعامل " القادوس " .. وكنت أعطى نجية فى أخر اليوم الإيراد .. أذهب إلى بيتها بنفسى .. كنت أضع القروش .. مع الفضة مع أوراق النقد الصغيرة .. أصر هذا كله فى منديل .. وأذهب إلى الدار .. أدفع الباب وأدخل إلى المجاز وأنا أقول :
ـ يا ساتر ..

إذ لم تكن نجية تظهر علىّ قط .. رغم أنها بحراوية من المنصورة ومن منطقة شجرة الدر .. وعندما جاء بها طاهر حجبها كلية عن الأنظار وكان الناس يتغنون بجمالها .. ولكننى لم أكن بعد عشرة دامت ستة أعوام قد رأيتها رأى العين .. أو وقع نظرى عليها وهى سافرة .. كان هذا والرجل حى .. وبعد موته حافظت على ذكراه .. فلم أرها قط .. وكنت أجلس فى المجاز ونظرى إلى الأرض ..

وتقف هى على درج السلم منزوية .. وأناولها المنديل بالنقود .. وفى الأسبوع الأول لوفاة المرحوم كانت بعد أن تتناول المنديل تنخرط فى البكاء .. وكنت أقدر ظروفها ..
ـ شدى حيلك .. يا ست .. لازم تشدى حيلك .. قدام الأولاد دا أمر ربنا ..

ولم أكن أسمع كلاما .. وإنما بكاء يستمر مدة .. وشهقة وشهقات ثم أرى منديلا صغيرا يجفف هذه الدموع ..

وكنت أرى وأنا جالس ذيل الثوب الأسود الطويل .. والقدم الصغيرة فى الشبشب .. ولكثرة ما تعودت أن أنكس رأسى وأنا فى بيتها .. لم أكن أغير هذا الوضع .. حتى وأنا أداعب ابنها عبد الفتاح ..

ثم تطور الحال بعد أن رغبت فى أن تعرف كل أحوال الطاحونة وأصبحت تجلس أمامى .. وهى ملثمة ومغطية رأسها بالطرحة ..

وكانت بعد وفاة المرحوم مباشرة ترغب فى أن تبيع الطاحونة وتذهب بأولادها إلى أهلها فى المنصورة ..
ولكنى كنت أعارضها .. وأقول لها :
ـ أن أولادها سيكونون غرباء هناك .. ويجب أن تبقى لتربى عبد الفتاح .. حتى يفتح بيت أبيه ..

وعندما رأت الطاحونة دائرة والإيراد لم ينقص وافقتنى .. وكان معظم القرويات المترددات على الطاحونة من الصبايا .. لأن العجوز لا تستطيع أن تحمل كيلتين وثلاث كيلات من الغلة على رأسها .. وكن يجلسن فى حوش الوابور بجانب مقاطفهن يتحدثن .. أو يصمتن .. والفلاحة بطبعها قليلة الكلام .. كثيرة العمل .. وقد تعلمت منهن فى جلستهن الطويلة الصبر ..

فمنهن من كانت تجلس فى انتظار دورها من السابعة صباحا .. إلى الثانية بعد الظهر .. دون أن تتذمر أو تأكل أو تشرب شيئا ..

وكانت عملية الطحن نفسها رغم ما فيها من مشقة وتعب ممتعة للغاية .. وكنت أنسى التراب .. وغبار الدقيق .. وصوت الحجر الدائر وهزات الخشب وزعيق النساء .. أنسى هذا كله لأننى أعمل وأدير وحدى الطاحونة بعد موت صاحبها ..

وكنت قد بلغت الخامسة والعشرين وأفكر فى الزواج ككل شاب فى القرية .. وكانت نعيمة بنت الريس جلال .. هى التى وقع عليها اختيارى لأن والدها مراكبى .. ويعمل مثلى بعيدا عن الغيط والفلاحة وأنا أفكر إذا ساعدتنى ظروف الحياة .. أن أقيم مطحنا فى المدينة .. ونعيمة ما دامت غير لاصقة بالأرض ستذهب معى حيث أذهب ..

هذا ما فكرت فيه وعملت له وأخذت أوفر ثلاثين جنيها لأعطيها لوالدها كمهر .. والرجل قادر على تجهيز بنته ..

وكان كل شىء فى الحياة والطاحونة يبلغنى هذا الهدف .. فالطاحونة زاد ايرادها اليومى بعد وفاة المرحوم ماهر ولم ينقص .. ورسخ قدم نجية فى البلد .. لتربى عبد الفتاح .. ليأخذ مكان والده .. وأصبحت تستشيرنى فى كل الأمور .. وكان عبد الحكيم الأخ الأكبر لماهر قد تقدم إليها ليتزوجها .. وقال لها أن غرضه تربية أولاد أخيه ولكنها رفضت ولم يكن رفضها لأنه متزوج وسيجعلها زوجة ثانية وانما لأنها كانت تعرف أن غرضه الأول هو الاستيلاء على الطاحونة التى جاهد ماهر وشقى فى الحياة حتى حصل عليها .. فكانت تعرف أن ماهر خرج من البلد منذ سنين فقيرا معدما ليجرى على معاشه .. وسافر فى مركب .. ولم يقبل على نفسه أن يقترض من أحد من أهله أجرة السكة الحديد .. كانت تعرف هذا ..
ـ ودلوقت جاى عبد الحكيم .. علشان يجوزنى .. لأ .. ومتخلهش يدخل الطاحونة ..

والواقع أنه لم يكن يدخل الطاحونة .. وزادت مسئوليتى وأعمالى وأصبحت نجية تثق في ثقة مطلقة ..

***

وكنت أجلس منكس الرأس فى " المجاز " كعادتى .. ولكننى لم أكن أرى قدميها .. والشبشب .. كما كنت أفعل فى أول عهدى بها .. وانما كنت أرى جسمها كله فى ردائه الأسود .. وطرحتها الخفيفة على رأسها .. لأنها غيرت مكانها وهبطت من بسطة السلم ثلاث درجات وأصبحت فى مواجهتى .. فلا يفصلنا جدار السلم الدائرى .. الآن .. وإنما يفصلنا شىء آخر .. شىء آخر غير مرئى لكلينا .. شىء مغيب فى التراب .. ولكن .. لم أكن حتى هذه اللحظة قد رأيت وجهها ..

وانما رأيت العينين فقط .. العينين الخضراوين .. من " البحر الصغير " .. أو من شجرة الدر .. فإن المراكبية فى بلدى كانوا يتحدثون كثيرا عن " البحر الصغير " ولا يعرفون شجرة الدر .. ثم حركة الشفتين من وراء الطرحة المطوية ولا أدرى لماذا تعلمت أن تتلثم كالصعيديات .. لاشك أنها كانت تحافظ على تقاليد المرحوم ..

***

وكان فى القرية قهوتان .. قهوة على الجسر قريبة من المسجد وقهوة فى الدرب .. ولكنى لم أكن أجلس فى الليل فى واحدة منهما .. لأنى لا أحب رائحة " الحسن كيف " ولا التمباك .. ولا أشرب الشاى الأسود .. وإنما كنت أخرج من الوابور .. وأذهب إلى الموردة .. وأجد فيها أربعة أو خمسة مراكب كبيرة من مراكب بلدنا .. رست فى الموردة ليزور ملاحوها أهلهم ثم يستأنفوا سيرهم إلى مصر .. أو إلى أسوان .. وكانت هـذه المراكب محملة بالقطن أو الغلة .. أو البلاليص إلى أقصاها .. وبينها وبين الماء مقدار خمسة قراريط ..

وكنت أنزل فى أقرب مركب .. وعند الدفة .. أغتسل من الدقيق والتراب .. أو أخلع ملابسى وأغطس .. فى الماء وأخرج لأنشف جسمى بيدى .. وأرتدى ملابسى .. وأصلى المغرب والعشاء .. وأجلس بعد ذلك أسمر مع الريس حمدان ومن معه من المراكبية وكنت أحبهم جميعا وأحب حياتهم فى النيل .. حتى أحس بالنوم .. وفى بعض الليالى كنت أنام بجوار الدفة إلى الصباح ..

ولا أدرى لماذا كنت أتصور وأنا جالس فى مؤخرة المركب .. أنه مبحر .. ونجية وأطفالها الثلاثة بجوارى ووضعنا فى المركب عفش البيت كله .. ولم ننس حتى الزير وأننا ذاهبون إلى مصر ..

ولا أدرى لمـاذا تصورت هـذا فى تلك اللحظة .. ولم أتصور أن بجوارى نعيمة .. مع أننى كنت أعمل بكل امكانياتى على الزواج من هذه الفتاة الطيبة .. وكانت أمها تعرف ذلك وان لم نقرأ الفاتحة ..

***

وفى ليلة من ليالى الصيف وكنت أجلس مع بعض المراكبية على ظهر المركب .. لمحنا مع شعاع القمر الأول شيئا أسود يقترب منا .. ثم يصطدم بالمركب .. وجذبه أحد الملاحين ووجدناها فتاة من القرية مخنوقة حديثا وبدأ بطنها ينتفخ ..

وأشاع أهل القرية أن زهرة خنقها أهلها فى وابور الطحين .. ثم ألقوا بجثتها فى الماء .. وأن روحها تسكن فى الوابور وتصرخ فيه كل ليلة من ظلم أهلها ووحشيتهم .. فقد أثبت الطبيب الشرعى أن الفتاة ماتت عذراء .. ومع أننى أغلق الوابور بالمفتاح .. والخفير يسهر عليه إلى الصباح .. فقد صدق أهل القرية هذه الاشاعة ..

وزادها توكيدا أن " بستم الوابور " انكسر بعد حادث الفتاة مباشرة وحملناه إلى الورشة وتعطل الوابور .. عشرة أيام كاملة .. ثم أصيب أسطى الوابور فى يده .. وسقط عبد الموجود من فوق الحاجز الخشبى بجوار " القادوس " وكادت أن تدق عنقه ..

وأخذ الناس ينسجون حول روح زهرة الأساطير .. حتى خاف أهل القرية جميعا .. أن يمروا بجوار الوابور فى الليل .. وحتى خاف الخفير .. نفسه .. وأبعد عن الوابور ..

وكنت أقاوم هذه الاشاعات بكل ما أملك من قوة وصبر .. ولحمنا " البستم " وعاد الوابور يتك .. ولكن الفلاحين لم يصدقوا أعينهم وتحول عنا نصف العملاء .. ذهبوا إلى القرى البعيدة .. وعندما تعطل الوابور مرة أخرى .. بقى القليل منهم ..

وكنت أكافح وحدى .. فقد تحطمت أعصاب كل من كان يعمل معى فى الوابور .. وصدقوا الاشاعة .. وسرت إلى أعماقهم .. وقل الايراد وأصبحنا لانحصل إلا على قروش قليلة فى اليوم .. وضاع كل ما كان موفرا لدى نجية فى الاصلاحات .. فقد كنا نحل بعض آلات الوابور كل أسبوع ونذهب بها إلى الورشة ولم يبق معها أى شىء .. وعجزت عن دفع أجرة الأسطى فذهب يوم الخميس يعود أهله .. ولم يعد .. فقررت أن أدير الماكينة بنفسى لأننى تعلمت من كثرة ملازمتى للأسطوات كيف تدور وكان أهم شىء عندى أن يرى الفلاحون " العادم " يخرج من الماسورة وأن يسمعوا صوت " الكرنك " وليس المهم أن يطحنوا .. وانمـا المهم أن يعرفوا أن الوابور دائر ولم يتعطل إلى الأبد ..

***

وكنت أذهب فى هذه الأيام الحالكة إلى بيت نجية .. كل مساء وقالت لى ذات ليلة :
ـ عاوزة أبيع الوابور ..
ـ ستخسرى كثير دلوقت .. تبيعيه بتراب الفلوس ..
ـ تعبت وما عدش فيه فايدة .. وابور منحوس عاوزة أوكل العيال مساكين ..

وكانت حالتها محزنة فتأثرت .. ووضعت يدى فى جيبى وأخرجت لها الثلاثين جنيها مهر نعيمة ..
ـ إيه دول ..؟
ـ علشان تصرفى على الوابور .. تشترى غاز وزيت .. وتدفعى منهم أجرة عبد الموجود .. وحسنين .. والباقى خليه معاكى ..
ـ أنت بقالك ثلاثة أشهر ماختش ولامليم ..
ـ معلهش بكرة آخد .. وتزيد أجرتى ..
ـ مش ممكن آخـد منك مليم .. كمان أحرمك .. من عرق جبينك ..
ـ إن مكونتيش حتخديهم دلوقت .. حاسيب البلد وأمشى من بكرة ..
ـ تمشى تروح فين .. أنا مقدرش أعيش من غيرك ساعة ..

وأسفرت عن وجهها فى تلك اللحظة .. جعلتها المحنة التى نزلت بنا والتى جمعتنا تسفر .. ورأيت وجهها أبيض مستطيلا نقى البشرة وشفتين رقيقتين ناعمتين يكتنز فيهما الدم .. وقالت وكأنها ترانى لأول مرة :
ـ يعنى انت كبرت وطولت يا عبد الله .. وبقيت راجل أمال مجوزتش ليه ..؟
ـ حجوز ..
ـ مين ..؟

ولا أدرى لماذا لم أقل لها نعيمة بنت الريس جلال .. والواقع أن نعيمة لم تكن فى ذهنى فى تلك اللحظة وإنما قلت :
ـ أى واحدة بنت حلال .. كل بنات البلد بنشوفهم فى الوابور ..
ـ أوعى تكون اتلميت على أم توحيدة .. بيقولوا محوشة قرشين وبتعرض نفسها على الرجالة ..
ـ ومين غيرها ينفعنا فى الأزمة دى ..
ـ أوعى أزعل منك ..

وجلست على السلم تعد النقود .. وكانت تعلونى بمقدار أربع درجات .. وأنا جالس القرفصاء .. ووجهى إلى الأرض .. وعندما رفعت رأسى .. رأيت ما يعلو القدم من الساق .. بمقدار شبر .. ولم تكن هناك دمالج ولا خلاخيل .. ورأيت طرف القميص الأزرق تحت ثوب الحداد ورأيت استدارة الجسم كله فى خط مائل .. فلم تكن نجية معتدلة فى جلستها ..

وشعرت بضربات قلبى كالمطرقة وأنا أسمع صوتها ولم يكن الصوت الذى ألفته .. كان يقطر عذوبة ورقة ..
ـ يعنى دول ثلاثين ..
ـ أيوة ..
ـ مهر الجواز .. وليه أحرمك منه ..
ـ دى فلوسك يا ستى ..
ـ أخـدهم علشـان ما تزعلش .. بس أوعى تتلم على أم توحيدة ..!

وكانت تبتسم وتنظر إلىّ بكل أنوثتها وكل فتنتها .. وشعرت فى تلك اللحظة .. بالفاصل الذى كان بينى وبينها قد انزاح ولم يعد له وجود ..

ومن تلك اللحظة استولت نجية على جسمى وعقلى ..

***

وكانت المحنة مستمرة .. ولم تتحسن أحوال الوابور .. كانت روح زهرة لا تزال مسيطرة على أهل القرية ..

وحدث أن تعاركت مع أحد الفلاحين وقد غاظنى أنه أخذ يروى أمامى أنه شـاهد روح زهرة فى الليل على شكل كلب مسعور .. يعوى .. انقلب إلى ذئب .. ثم إلى ضبع .. فضربت الرجل لأقطع لسانه عن هذا الكلام ..

وذهبنا إلى النقطة وحبسـنا معـا ثلاثة أيام .. وفى اليوم الرابع أخرجونى .. وعلمت من حسنين أن نجية ذهبت فى الليل إلى النقطة ليخرجنى الضابط وجننت وأنا أسمع منه هذا الكلام .. ولم أدر ما الذى ركبنى فى تلك الساعة فقد كنت فى حالة جنون تام .. ودفعت الباب برجلى ودخلت .. ولما أحست بى نزلت ..

وارتاعت لما رأته على وجهى من الغضب .. إذ تصورت أن الوابور انكسر ومصيبة جديدة حاقت بنا ..
وسألتها :
ـ رحت النقطة ..؟
ـ أيوه .. وكان معـايا الشيخ رفعت وكيل العمدة .. وعبد الفتاح ..
ـ وعلشان إيه تروحى .. ما عندناش نسـوان تخرج وتروح النقطة ..
ـ كان معايا الشيخ رفعت قلت لك ..
ـ دا عيب منك فضحت الراجل فى قبره ..
ـ أنت ملكش أمارة .. علىّ ..
وتطور الحديث .. فصفعتها .. ونسيت أننى أجير عندها ..

وجلست منزوية تبكى صامتة ولم تسبنى أو توجه إلىّ أى كلام .. وإنما أخذت تشهق ..

***

وكنت أنتظر بعد هذا أن تطردنى من عملى فى الطاحونة ولكن لم يحدث شىء مما توقعته .. وظللت أعمل وأكافح حتى تحسنت الأحوال ودار الوابور وتك .. وأخذ نساء القرية يعدن إلينا بالتدريج ثم كثرن حتى ضاق بهن حوش الوابور ..

وحدث أن تعطلت بعض وابورات الطحين فى القرى المجاورة .. فجاء أهلها إلينا .. وزاد العمل .. وتضخم ..
وأحدثنا تغييرا مطلقا فى العدد .. وتصميم الوابور ..

***

وكانت النار تشتعل فى قلبى وقلب نجية .. فتزوجتها لا لأطفىء هذه النار بل لأزيدها اشتعالا ..

وفى صباح ليلة الزفاف .. سمعت الحجر الثانى يدور فى الطاحونة فابتسمت .. وأدركت أننا دخلنا .. فى حياة جديدة ..

===============================
نشرت القصة بمجلة الجيل فى 19/9/1955 وأعيد نشرها فى مجموعة قصص لمحمود البدوى بعنوان " الأعرج فى الميناء " وفى مجموعة " قصص من القرية " ـ مكتبة مصر
===============================

ليست هناك تعليقات: